فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



البحث الثالث:
قوله تعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفارًا فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم، وقال الأكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء، ثم قال ذو القرنين: {أَمَّا مَن ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر.
والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا} ثم قال: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل في الدنيا: {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} أي منكرًا فظيعًا: {وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صالحا فَلَهُ جَزَاء الحسنى} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {جَزَاء الحسنى} بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان.
الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح.
والثاني: أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: {وَلَدَارُ الأخرة} [الأنعام: 32] و{حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] ثم قال: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله: {قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء: 28] وقرئ يسرًا بضمتين.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)}.
اعلم أنه تعالى لما بين أولًا أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترًا وفيه قولان.
الأول: أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق.
والقول الثاني: أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبدًا ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال: سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربًا لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} وفيه وجوه: الأول: أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به.
والثاني: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر.
والثالث: كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين.
والرابع: أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال: أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)}.
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سببًا آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ}.
اختلف فيه هل كان نبيًا؟ فذهب قوم إلى أنه نبي مبعوث فتح الله على يده الأرض وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن نبيًا ولا ملكًا، ولكنه كان عبدًا صالحًا أحب الله وأحبه الله، وناصح لله فناصحه الله، وضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر، ولم يكن له قرنان كقرني الثور.
واختلف في تسميته بذي القرنين على أربعة أقاويل:
أحدها: لقرنين في جانبي رأسه على ما حكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثاني: لأنه كانت له ضفيرتان فَسُمِّيَ بهما ذو القرنين، قاله الحسن.
الثالث: لأنه بلغ طرفي الأرض من المشرق والمغرب، فَسُمِّيَ لاستيلائه. على قرني الأرض ذو القرنين، قاله الزهري.
الرابع: لأنه رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقص رؤياه على قومه فَسُمِّيَ ذو القرنين، قال وهب بن منبه.
وحكى بن عباس أن ذا القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد، وحكى محمد بن إسحاق أنه رجل من إهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني ولد يونان بن يافث بن نوح. وقال معاذ بن جبل: كان روميًا اسمه الاسكندروس. قال ابن هشام: هو الإِسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية.
قوله عز وجل: {إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: باستيلائه على ملكها.
الثاني: بقيامه بمصالحها.
{وَأَتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} فيه وجهان:
أحدهما: من كل شيء علمًا ينتسب به إلى إرادته، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد.
ويحتمل وجهًا ثالثًا: وجعلنا له من كل أرض وليها سلطانًا وهيبة.
قوله عز وجل: {فَأَتْبَعَ سَبًَا} فيه أربعة أوجه:
أحدها: منازل الأرض ومعالمها.
الثاني: يعني طرقًا بين المشرق والمغرب، قاله مجاهد، وقتادة.
الثالث: طريقًا إلى ما أريد منه.
الرابع: قفا الأثر، حكاه ابن الأنباري.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {حَمِئَةٍ} وفيها وجهان:
أحدهما: عين ماء ذات حمأة، قاله مجاهد، وقتادة.
الثاني: يعني طينة سوداء، قاله كعب.
وقرأ بن الزبير، والحسن: {فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ} وهي قراءة الباقين يعني حارة.
فصار قولًا ثالثًا: وليس بممتنع أن يكون ذلك صفة للعين أن تكون حمئة سوداء حامية، وقد نقل مأثورًا في شعر تُبَّع وقد وصف ذا القرنين بما يوافق هذا فقال:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ** ملكًا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب أمرٍ من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها ** في عين ذي خُلُبٍ وثاطٍ حرمد

الخُلُب: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود.
ثم فيها وجهان: أحدهما: أنها تغرب في نفس العين.
الثاني: أنه وجدها تغرب وراء العين حتى كأنها تغيب في نفس العين.
{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه خيره في عقابهم أو العفو عنهم.
الثاني: إما أن تعذب بالقتل لمقامهم على الشرك وإما أن تتخذ فيهم حُسنًا بأن تمسكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العَمَى، فحكى مقاتل أنه لم يؤمن منهم إلا رجل واحد.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}.
قرئ بقطع الألف، وقرئ بوصلها وفيها وجهان:
أحدهما: معناهما واحد.
الثاني: مختلف. قال الأصمعي: بالقطع إذا لحق، وبالوصل إذا كان على الأثر، وإن لم يلحق.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} قرئ بكسر اللام، وقرئ بفتح اللام، وفي اختلافهما وجهان:
أحدهما: معناهما واحد.
الثاني: معناهما مختلف. وهي بفتح اللام الطلوع، وبكسرها الموضع الذي تطلع منه. والمراد بمطلع الشمس ومغربها ابتداء العمارة وانتهاؤها.
{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} يعني من دون الشمس ما يسترهم منها من بناء أو شجر أو لباس. وكانوا يأوون إذا طلعت عليهم إلى أسراب لهم، فإذا زالت عنهم خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك.
قال ابن الكلبي: وهم تاريس وتأويل ومنسك.
وهذه الأسماء والنعوت التي نذكرها ونحكيها عمن سلف إن لم تؤخذ من صحف النبوة السليمة لم يوثق بها، ولكن ذكرت فذكرتها. وقال قتادة. هم الزنج. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}.
اختلف فيمن سأله عن هذه القصة، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثًا ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك، وذو القرنين: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه، فيقال المقدوني، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني، وقال وهب بن منبه هو رومي، وذكر الطبري حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن ذا القرنين شاب من الروم» وهو حديث واهي السند، فيه عن شيخين من تجيب، واختلف الناس في وجه تسميته ب {ذي القرنين}، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه، فسمي بهما، ذكره المهدوي وغيره، والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر: الكامل:
فلثمت فاها آخذًا بقرونها ** شرب النزيف لبرد ماء الحشرج

ومنه حديث في غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أم عطية: فضفرنا رأسها ثلاثة قرون، وكثيرًا تجيء تسمية النواصي قرونًا، وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس، ويمسك قرنين لها بيديه، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه، وسمي ذا القرنين، وقالت فرقة سمي ذا القرنين لأنه بلغ المغرب والمشرق، فكأنه حاز قرني الدنيا، وقالت فرقة إنه بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرنيها، فسمي بذلك، أو قرني الشيطان بها، وقال وهب بن منبه: سمي بذلك لأن جنبتي رأسه كانتا من نحاس، وقال وهب بن منبه أيضًا كان له قرنان تحت عمامته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بعيد، وقال علي بن أبي طالب: إنما سمي ذا القرنين لأنه ضرب على قرن رأسه فمات: ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك، وهذا قريب، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك كلها، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، والمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران نمرود وبخت نصر، وقوله: {وآتيناه من كل شيء سببًا} معناه علمًا في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله: {كل شيء} عموم، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤتَ منها سببًا يعلمها به، واختلف في {ذي القرنين} فقيل هو نبي، وهذا ضعيف. وقيل هو ملَك بفتح اللام، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلًا يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال: «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب» وقيل هو عبد ملِك بكسر اللام صالح، نصح لله فأيده، قاله علي بن أبي طالب، وقال فيكم اليوم مثله، وعنى بذلك نفسه، والله أعلم. وقوله: {فأتبع سببًا} الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {فاتّبع} بشد التاء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {فأتبع} بسكون التاء على وزن أفعل، قال بعض اللغويين هما بمعنى واحد، وكذلك تبع، وقالت فرقة {أتبع} بقطع الألف: هي عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، و{اتبع} إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن، قاله أبو زيد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن كقوله عز وجل: {فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات: 10]، وكقوله: {فأتبعهم فرعون} [يونس: 90]، [طه: 78]، وكقوله: {فأتبعه الشيطان} [الأعراف: 175]، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب، وإذا تأملت {اتّبع} بشد التاء لم تربط لك هذا المعنى ولابد. والسبب في هذه الآية، الطريق المسلوكة، لأنها سبب الوصول إلى المقصد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم {في عين حَمِئة}، على وزن فَعِلة، أي ذات حُماة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، والباقون {في عين حامية}، أي حارة، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس {حمئة}، وقال معاوية {حامية}، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط، والثاط الطين. فلما انفصلا قال رجل لابن عباس: لوددت أني حضرت يا أبا العباس، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين: الكامل:
قد كان ذو القرنين جدي مسلمًا ** ملكًا تدين له الملوك ويحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب أمر من حيكم مرشد

فرأى مغار الشمس عند غروبها ** في عين ذي خلب وثاط حرمد

فالخلب: الطين، والثاط: الحمأة، الحرمد: الأسد، ومن قرأ: {حامئة}، وجهها إلى الحرارة، وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وهي تغيب فقال: «في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من الله لأحرقت ما على الأرض»، وروى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال: «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟» قلت لا، قال: «إنها تغرب في عين حامية»، فهذا يدل على أن العين هنالك حارة، و{حامية} هي قراءة طلحة بن عبيد الله، وعمرو بن العاص وابنه، وابن عمر، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين: فيقال يحتمل أن تكون العين حارة، ذات حمأة فكل قراءة وصف بصفة من أحوالها، وذهب بعض البغداديين إلى أن {في} بمنزلة عند، كأنها مسامتة من الأرض فيما يرى الرائي لـ: {عين حمئة} وقال بعضهم: قوله: {في عين} إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها، أي هي آخر الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم، قال أبو حاتم: وقد يمكن أن تكون {حاميئة} مهموزة، بمعنى ذات حمأة، فتكون القراءتان بمعنى واحد، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي، بقوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين} ومن قال إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام، و{إما أن تعذب} بالقتل على الكفر {وإما أن تتخذ فيهم حسنًا} أي بالإجمال على الإيمان، واتباع الهدى، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين: إما أن تكفر فتعذبها، وإما أن تؤمن فتحسن إليها، وذهب الطبري إلى أن اتخاذ الحسن هو الأسر مع كفرهم، فالمعنى، على هذا، أنهم كفروا ولابد فخيره الله بين قتلهم أو أسرهم، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية.
قال القاضي أبو محمد: ولكن تقسيم {ذي القرنين} بعد هذا الأمر إلى كفر أو إيمان، يريد هذا القول بعض الرد، فتأمله.
{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)}.
{ظلم} في هذه الآية بمعنى كفر، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله، وعقب لهم بذكر عذاب الله، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم، المحسوس لهم، الأقرب نكاية فلما جاء إلى وعد المؤمنين، قدم تنعيم الله تعالى الذي هو اللاحق عن المؤمنين، والآخر بإزائه حقير، ثم عبر أخيرًا بذكر إحسانه في قول اليسر، وجعله قولًا، إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى، فكأنه سلمها، ولم يراع تكسبه، وقرأت فرقة {نُكرًا} بضم الكاف، وفرقة {نكْرًا} بسكون الكاف، ومعناه المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر: {جزاء الحسنى} بإضافة الجزاء إلى {الحسنى}، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد ب {الحسنى} الجنة، والجنة هي الجزاء، فأضاف ذلك كما قال: {دار الآخرة} والدار هي الآخرة، والثاني أن يريد ب {الحسنى} أعمالهم الصالحة في إيمانهم، فوعدهم بجزاء الأعمال الصالحة، وقرأ حمزة الكسائي وحفص عن عاصم {جزاءً الحسنى} بنصب الجزاء على المصدر في موضع الحال، و{الحسنى}: ابتداء خبره في المجرور، ويراد بها الجنة، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق {جزاءٌ} بالرفع والتنوين {الحسنى} وقرأ ابن عباس ومسروق: {جزاءَ} نصب بغير التنوين {الحسنى} بالإضافة، قال المهدوي: ويجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ووعدهم بذلك بأنه ييسر عليهم أمور دنياهم، وقرأ ابن القعقاع: {يسُرًا} بضم السين، وقوله: {ثم أتبع سببًا} المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، فيجيء سبب الوصول، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التواريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والإعداد الموفي، والحزم المستيقظ المتقد، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته، وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب. وكرهت التطويل بها لأنها علم تاريخ. وقرأ الجمهور: {مطلِع} بكسر اللام، وقرأ الحسن بخلاف وابن كثير وأهل مكة {مَطلَع الشمس} بفتح اللام، والقوم: الزنج، قاله قتادة وهم الهنود وما وراءهم، وقال النقاش في قوله: {لم نجعل لهم من دونها سترًا} معناه: أنه لهم بنيان، إذ لا تحمل أرضهم البناء، وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب، وقيل يدخلون في ماء البحر، قاله الحسن وقتادة وابن جريج، وكثر النقاش في غيره في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم وفعلها، لقدرة الله تعالى فيهم، ونيلها منهم، ولو كان لهم أسراب تغني لكان سترًا كثيفًا، وإنما هم في قبضة القدرة، سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن، ألا ترى أن الستر، عندنا نحن، إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهوى، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا، فسبحان المنفرد بالقدرة التامة، وقوله: {كذلك} معناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، فأوجز بقوله: {كذلك} ثم أخبر الله تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين، وما تصرف من أفعاله ويحتمل أن يكون {كذلك} استئناف قول، ولا يكون راجعًا على الطائفة الأولى، فتأمله، والأول أصوب.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)}.
قرأت فرقة {اتّبع} بشد التاء، وقرأت فرقة {أتبع} بتخفيفها، وقد تقدم ذكره وهذه الآية تقتضي أنه لما بلغ مطلع الشمس، أي أدنى الأرض من مطلع الشمس، {أتبع} بعد ذلك {سببًا}، أي طريقًا آخر، فهو، والله أعلم، إما يمنة وإما يسرة من مطلع الشمس. اهـ.